العملات الرقمية الرسمية .. خطوة صوب التطور التكنولوجي لكن بعيدا عن حل مشاكل الاقتصاد
تشير معظم الدلائل إلى أن العملات الرقمية الرسمية التي تصدرها البنوك المركزية ستمثل "مال المستقبل" في أي وقت قريب، فالتطور التكنولوجي السريع بات يجبر الدول على التماهي معه إلى حد كبير لإطلاق أصول رقمية تتمتع بضمانة البنوك المركزية وتعادل قيمتها النقود الحقيقية على نحو يحقق أهدافا مهمة مثل الشمول المالي وحماية الخصوصية.
منذ ابتكار عملة "بتكوين" قبل نهاية العقد الأول من هذا القرن، راجت العملات المشفرة وازدهرت حتى وصلت قيمتها السوقية إلى ما يتجاوز تريليون دولار.
تستكشف عشرات البلدان، التي تمثل مجتمعة أكثر من 90% من الاقتصاد العالمي، إطلاق عملات رقمية رسمية. وأطلقت 11 دولة بالفعل، 10 منها ذات دخل منخفض وتقع في الكاريبي، عملات رسمية رقمية.
يقول الخبراء إن اهتمام البنوك المركزية بالعملات الرقمية زاد في 2019، حين أعلنت شركة "فيسبوك" أنها بصدد إنشاء عملة رقمية خاصة بها ما يعني تقديم خيار دفع جديد لأكثر من ملياري مستخدم.
في الوقت ذاته لا يبدو أن إطلاق العملات الرقمية الرسمية سيشكل حلا سحريا لمشكلات الاقتصاد، فإطلاق العملات أمر مستقل تماما عن أوضاع الاقتصاد الكلي في أي دولة والدليل على ذلك كان واضحا في عدد من التجارب التي خاضتها دول نامية في إصدار عملات رقمية لكنها ظلت تعاني اقتصاديا جراء مشكلات هيكلية تحتاج إلى حلول أعمق وأكثر قوة.
دوافع
يشير خبراء إلى أن الدوافع الرئيسية لإطلاق العملات الرقمية بالنسبة للدول الناشئة والاقتصادات النامية يكمن في تعزيز الشمول المالي وكفاءة أنظمة المدفوعات بما في ذلك خفض التكاليف والمخاطر المتعلقة بإدارة النقد المادي وزيادة مرونة وسلامة أنظمة الدفع.
يقولون أيضا إن وجود حسابات مباشرة للمواطنين لدى البنك المركزي من شأنه أن يمنح الحكومات طرقا جديدة وقوية لإدارة الاقتصاد حيث يمكن تقديم مزايا وحوافز لأنظمة الدفع للمواطنين مباشرة كما أن ضمان البنوك المركزية لتلك العملات سيجعلها أصولا رقمية آمنة.
لكن الخبراء يقولون إن إطلاق مثل تلك العملات قد يؤدي أيضا إلى خلق مشاكل جديدة من خلال تركيز قدر هائل من الطاقة والبيانات والمخاطر داخل بنك واحد، ما يعرض الخصوصية والأمن الإلكتروني للخطر.
أمريكا اللاتينية والكاريبي
كان لعدد من دول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي السبق في إصدار العملات الرقمية الرسمية وعلى رأس تلك الدول جزر البهاما وجامايكا والسلفادور واتحاد دول شرق الكاريبي.
لكن صندوق النقد الدولي يرى أن الفوائد المحتملة لتلك العملات، والتي يأتي على رأسها الشمول المالي وخفض تكاليف تسوية المدفوعات نظرا لتقلص دور البنوك الوسيطة يأتي في ظل وضع متردٍّ للاقتصاد حيث إن هذه الدول لها تاريخ من عدم استقرار الاقتصاد الكلي وانخفاض مصداقية المؤسسات وتدفقات رأس المال الكبيرة والفساد والحجم الكبير للقطاعات غير الرسمية في الاقتصاد.
ويقول الصندوق إن إصدار العملات الرقمية ربما لن يساهم في حل المشكلات الأساسية التي تؤثر على مصداقية العملات الوطنية، بل قد يؤدي إلى تفاقهما على سبيل المثال من خلال تسهيل التمويل النقدي للحكومة وزيادة المعروض من الأموال.
الصين
يُشار إلى تجربة الصين بالبنان عادة في مجال العملات الرقمية على الرغم من أن الدوافع لدى بكين لإطلاق عملة رقمية رسمية مختلفة.
يشير المحللون إلى أن الحد من الهيمنة الاحتكارية لأنظمة الدفع الخاصة في بعض الدول مثل الصين يمثل أقوى دافع للحكومة لإصدار عملات رقمية رسمية على مستوى الأفراد، فضلا عن السعي لعولمة العملة المحلية الصينية.
في حالة الصين يمكن للرنمينبي "اليوان" الرقمي أن يعزز تدويل العملة ويساعد في كبح الدور المهيمن للدولار في التجارة والتمويل الدوليين، كما أنه يساعد في الحد من انكشاف الصين لسياسات العقوبات الأمريكية التي تعتمد بشكل كبير على مكانة الدولار في التمويل الدولي.
حققت الصين تقدما كبيرا حتى الآن في إطلاق عملتها الرقمية، حيث أطلقت تجارب محلية للرنمينبي الرقمي في 2020 وبدأت أيضا تضييق الخناق على "آنت جروب" أكبر شركة تكنولوجية تركز على أنظمة الدفع في البلاد.
ومن المتوقع الآن أن توسع الصين برنامجها التجريبي الخاص بالعملة الرقمية ليشمل أكثر من مليار نسمة بحلول نهاية 2023.
على الرغم من جهود الصين بلغ إجمالي المعاملات باستخدام العملة 100 مليار يوان فقط ( 14.5 مليار دولار) بنهاية أغسطس الماضي، أي ما يعادل3.6 مليار يوان في المتوسط شهريا منذ بدء التجارب وفقا لأحدث البيانات الصادرة عن بنك الشعب الصيني.
في حين أن هذا يمثل بعض التقدم بعد ثلاث سنوات من التجارب، إلا أنه لا يزال بعيدا عن التحدي الجاد لتطبيقات الدفع الرقمية المملوكة للقطاع الخاص.
وكشفت "آنت جروب" التي تمتلك نظام "علي باي" في 2020 أن تطبيقها سجل معاملات بقيمة1.6 تريليون دولار في المتوسط كل شهر أي أكثر من ألف ضعف حجم المعاملات الشهرية لليوان الرقمي في ذلك الوقت.
وأشار المحللون في السابق إلى مخاوف بشأن مدى سيطرة الحكومة ونقص الحوافز كسبب لانعدام الحماس تجاه العملة. في نهاية المطاف يملك رواد الصناعة "علي باي" و"وي تشات باي" بالفعل مئات الملايين من المستخدمين الذين هم على دراية بخدماتهما.
زيمبابوي
أطلقت زيمبابوي في الآونة الأخيرة عملة رقمية لكن ذلك من المستبعد أن يعالج التحديات التي يواجهها الاقتصاد. وقالت زيمبابوي إن عملتها ستكون مدعومة بالذهب وإنها ستستخدم كوسيلة للدفع ومخزن للقيمة في محاولة لدعم الاقتصاد المحلي.
يأتي هذا بعد أن أعلن البنك المركزي العام الماضي إصدار عملات ذهبية، والتي يستخدمها المستثمرون للتحوط من التضخم والحروب.
وأدى التضخم المرتفع في الدولة الواقعة في جنوب إفريقيا إلى زيادة الضغط على الشعب والعملة المحلية، حيث يواصل الدولار فقدان قيمته مقابل العملة الأمريكية إذ يتم تداول الدولار الأمريكي مقابل 2000 دولار زيمبابوي في السوق الموازية.
وقال بنك الاحتياطي الزيمبابوي (البنك المركزي) إن الرموز الرقمية ستكون مدعومة بالكامل بالذهب الذي يملكه البنك مضيفا أنها ستصدر لأغراض الاستثمار مع فترة استحقاق تبلغ 180 يوما وبمكن استبدالها بنفس طريقة العملات الذهبية العادية.
وعانت زيمبابوي في الفترة من 1998 إلى 2006 تضخما جامحا جراء تدهور الإنتاج الزراعي ما نتج عنه أزمة في الإمدادات الغذائية وبالتالي ارتفاع الأسعار. كما أن القطاع المصرفي عانى جراء عقوبات اقتصادية فرضتها عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وفي عام 2009، أصدرت الحكومة ورقة نقدية بقيمة 100 تريليون دولار زيمبابوي وبلغت قيمتها حوالي 33 دولارا أمريكيا في السوق غير الرسمية. وبعد فترة وجيزة اضطرت زيمبابوي إلى التخلي عن عملتها الخاصة والبدء في استخدام الدولار الأمريكي كعملة رسمية.
وبموجب نظام متعدد للعملات، بدأ الشعب في استخدام عملة البولا البوتسوانية، والروبية الهندية واليورو والراند الجنوب إفريقي. واكتمل إلغاء تداول العملة المحلية بحلول عام 2015.
لكن في أكتوبر 2019، أعادت الحكومة طرح عملة رسمية وحظرت استخدام العملات الأجنبية في المعاملات المحلية لكن السوق غير الرسمية ازدهرت ولم تحقق العملة الجديدة تقدما ما دفع الحكومة لرفع الحظر المفروض على استخدام الدولار الأمريكي.
وفي عام 2022، أطلقت الحكومة عملة ذهبية عيار 22 لبيعها للجمهور لمكافحة التضخم الجامح.
عانت الحكومة تضخما مفرطا بلغ في ذروته في نوفمبر 2008 عند نحو 79.600.000.000%، حيث كان يبلغ في الأساس 98% يوميا. وهذا ثاني أعلى تضخم مفرط في التاريخ بعد ما عانته المجر في أعقاب الحرب العالمية الثانية حين كانت الأسعار تتضاعف كل 15 ساعة.
فنزويلا
في محاولة للتخفيف من تأثير العقوبات المالية الأمريكية والسماح لإدارة البلاد بالخروج من هيمنة الدولار الأمريكي، أعلنت إدارة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في 2017 إطلاق "بترو" وهي عملة مشفرة تسيطر عليها الدولة بإصدار يقتصر على 5 مليارات دولار مدعوما باحتياطيات النفط من حقل أياكوتشو غير المستغل في حزام أورينوكو النفطي وكذلك باحتياطيات الذهب والماس من الحزام رقم 13 الزاخر بالمعادن.
ومنذ إطلاقها سعت الحكومة للترويج للعملة من خلال استخدامها في التحويلات الحكومية بما في ذلك للمتقاعدين وحتى من خلال إجبار بعض الشركات على تلقي مدفوعات بها. كما تم تسهيل سداد الضرائب والخدمات العامة بالبترو، بينما تم ربط بعض رسوم الضرائب والخدمات بقيمة مرجعية للبترول.
على الرغم من كل تلك الجهود، واجهت العملة صعوبات للاعتراف بها محليا وتفاقم الوضع بسبب العقوبات المالية حيث أصدرت الولايات المتحدة أمرا تنفيذيا يحظر على المواطنين الأمريكيين حيازة أو تداول أي عملة رقمية تصدرها فنزويلا. وأدى عدم اليقين والعقوبات ومشاكل التشغيل إلى انخفاض الطلب على بترو ما أدى إلى تداول العملة في بعض الأحيان بخصم كبير يصل إلى 20-50% من القيمة الاسمية للعملة.
وقال إرنستو "حتى الحكومة الفنزويلية لا تريد أي علاقة بالبترو، لم تواصل ذلك قط" مضيفا أنه حتى الكيانات الحكومية لا تستخدمها للمدفوعات، وكذلك الأمر بالنسبة لمحطات الوقود مثلا التي يملكها القطاع الخاص، ولكن تخضع للرقابة من جهة الحكومة.
لم تكن تلك المحاولة الأخيرة لفنزويلا، ففي 2021 أطلقت الحكومة "البوليفار الرقمي" للتغطية فيما يبدو على التضخم المفرط الذي عانته البلاد ودفع عملتها إلى الحضيض. وبلغ معدل التضخم في البلد الأمريكي الجنوبي 1588% تقريبا في 2021 وتراجع إلى متوسط 200% في 2022 لكنه عاد للارتفاع في العام الجاري.
لكن المراقبين قالوا إن ما أطلقت عليه فنزويلا عملة رقمية لا يختلف عن العملة العادية في شيء. وقال "ميغيل لوبيز" الشريك الاستشاري المالي والمحاسبي لدى شركة "إرنست آند يونج" فنزويلا إنه لا توجد مكونات رقمية تجعل البوليفار الرقمي مختلفا عن العملة السابقة عليه والتي يمكن التعامل معها إلكترونيا أيضا.
وقال محللون إن البوليفار الرقمي مثل عملية إزالة ثلاثة أصفار فقط من العملة الفنزويلية منذ عام 2008 عندما قام الرئيس السابق "هوجو تشافيز" بحذف ثلاثة أصفار من قيمة البوليفار الأصلي.
ووفقا لما يقوله "لوبيز" فإن إزالة الأصفار تسعى إلى حل مشكلة يومية للشركات والهيئات العامة وأنظمة الدفع التي تواجه صعوبات كبيرة في العمل مع العديد من الأرقام.
وقال "أليخاندرو كاسترو" الخبير الاقتصادي ومدير العمليات لدى شركة الاستشارات "إيكونوميتريكا" إنه في النهاية البوليفار رقمي بالاسم فقط وليس من الناحية العملية.
وأضاف أن مصطلح رقمي ربما يرجع إلى نية الرئيس مستقبلا لرقمنة المعاملات وتقليل استخدام الأوراق النقدية لكنه أضاف "مع ذلك من المستحيل تنفيذ ذلك من الناحية العملية بسبب سلسلة من القيود المحلية" مضيفا أن معدل اختراق البنوك يبلغ 50% في فنزويلا.
على الرغم من فشل العملات الرقمية الرسمية لم يتوقف استخدام العملات المشفرة عن النمو في فنزويلا، حيث سجلت البلاد في 2020 ثالث أعلى استخدام للعملات المشفرة في العالم وفقا لمؤشر تبني العملات المشفرة العالمي التابع لـ "تشين لينك".
وينمو استخدام العملات المشفرة بسبب الصعوبات في إجراء المعاملات بالبوليفار العادي لأن التضخم المرتفع والفئات المنخفضة من الأوراق النقدية تعني أنه لا بد من حمل أكوام من الأوراق النقدية لإجراء حتى أصغر عملية شراء.
نيجيريا
كان لنيجيريا تجربة في إطلاق عملة رقمية رسمية لكن هدفها كان طموحا للغاية إذ سعت لأن تحل العملة الرقمية محل تلك الورقية بنسبة 100%.
لسوء الحظ لم تنل العملة الرقمية الجديدة رضا المواطنين بشكل كبير إلى الحد الذي دفعهم للقيام باحتجاجات ضد طرحها.
أطلقت الحكومة تدابير تحفيز لتشجيع مواطنيها على استخدام العملة الرقمية منها في البداية إزالة قيود الوصول بحيث لم تعد الحسابات المصرفية شرطا لاستخدام العملة، حتى إنها قدمت خصومات لاستخدام العملة الرقمية في سداد قيمة بعض الخدمات مثل سيارات الأجرة. ثم انتقلت الحكومة إلى تدابير أكثر صرامة من خلال تقييد التعامل النقدي نفسه، حيث أعلنت الحكومة تقييد السحوبات النقدية عند قيمة تصل إلى 100 ألف نايرا في الأسبوع للأفراد و500 ألف للشركات.
ليس هذا فحسب، بل أعلن البنك المركزي تصميما جديدا للعملة في خطوة قالت الحكومة في ذلك الوقت إنها تهدف إلى استعادة سيطرة البنك المركزي النيجيري على العملة وتعميق الدفع نحو اقتصاد غير نقدي. لذلك لم يقتصر الأمر على المواطنين فقط فيما يمكنهم سحبه، ولكنه امتد إلى البنوك التجارية التي لم يعد لديها الأموال اللازمة لتوزيعها لأنها كانت في انتظار وصول الأموال النقدية المصممة حديثا.
لكن كل ذلك لم ينجح، إذ انتشرت عبر وسائل التوصل الاجتماعي قصص النيجيريين الذين يعانون القيود على النقد بسرعة.
تمثل اعتراض النيجيريين في أن العملة الجديدة أثارت مخاوف بشأن الخصوصية المالية وحرية إجراء التعاملات وشكلت مخاطر على استقرار النظام المصرفي.
المصادر: أرقام- مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي- صندوق النقد الدولي- كوين ديسك- رويترز- معهد تشاتام هاوس
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}