"جردوهم من كل شيء" .. كيف وقع الذهب البريطاني في حجر الأمريكيين؟
في العاشر من مايو/أيار 1940 هبط مليون من المظليين الألمان على الأراضي الهولندية، ولكنهم لم يكونوا سوى طليعة الجيش. لقد كانوا المليون الأول من 3 ملايين من القوات الألمانية التي أمرها "هتلر" بغزو هولندا واحتلالها ثم التقدم غرباً باتجاه بلجيكا، وهي التحركات التي كانت جزءًا من فخ كبير أعده الألمان للحلفاء.
كانت خدعة "هتلر" هي أن يتظاهر الألمان بأنهم سيهاجمون فرنسا عبر بلجيكا، كما فعلوا عام 1914. وحينها شعر الجنرال الفرنسي "موريس جاملان" القائد العام لقوات الحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية بالارتياح ظناً منه أنه يفهم خطة "هتلر".
وجه "جاملان" ثلاثة جيوش آلية -الجيشين الفرنسيين الأول والسابع والقوات البريطانية- نحو الشمال والغرب لمواجهة وإيقاف الهجوم الألماني الآتي عبر بلجيكا. لكن على الطرف الآخر، وفي مركز قيادة الفوهرر شعر "هتلر" بالسعادة لنجاح خدعته، وقال لجنرالاته "يمكنني أن أبكي الآن من شدة الفرح".
وجه "هتلر" تعليمات إلى قائد القوات الجوية بعدم قصف الفرنسيين والسماح لهم بالتوغل في الأراضي البلجيكية ثم مهاجمتهم من الخلف. في هذه الأثناء تمكنت القوات الألمانية من اختراق غابات الأردين قبل أن تتجه بسرعة نحو ثغرة سيدان، ثم تستدير شمالاً باتجاه القنال الإنجليزي لتلتف من وراء قوات الحلفاء وتطوقها في حركة سماها الألمان "زيكليشنت" أو "حركة المنجل".
حوصر الحلفاء في مدينة دنكريك الواقعة على القنال الإنجليزي، بعد أن نجح الألمان في قطع خطوط الاتصال بين القوات البريطانية والجيش البلجيكي والجيش الفرنسي الأول. ولكن لحسن حظ الحلفاء، قرر الألمان فجأة تأجيل زحفهم تجاه دنكريك، وأعطوا قواتهم استراحة مدتها ثلاثة أيام.
قرار تأجيل الزحف في اتجاه دنكريك والذي يعد أحد ألغاز الحرب العالمية الثانية، سمح للبريطانيين والفرنسيين المحاصرين في دنكريك ببناء خط دفاعي هدفه تعطيل الألمان بقدر الإمكان حتى يتسنى لهم إجلاء قواتهم المحاصرة عبر البحر. وبالفعل تمت عملية الإجلاء بنجاح، واعتبرها كثيرون أحد أفضل التحركات العسكرية المخططة في التاريخ.
لكن لماذا نذكر هذه القصة؟ وما هي علاقة الأمريكيين بكل ذلك؟ وإلى أي مدى أثرت هذه الحادثة على الحلفاء؟ وكيف انتهى الحال بذهب بريطانيا العظمى في أحضان الأمريكيين؟ هذه الأسئلة وأخرى غيرها سنحاول الإجابة عنها بالتفصيل في هذا التقرير.
نجوا بأرواحهم تاركين خلفهم هدية للألمان
أهمية انسحاب دنكريك تكمن في نجاح البريطانيين والفرنسيين في النجاة بأرواحهم فقط. فباستثناء هذه الزاوية كان الانسحاب كارثة مالية وعسكرية للبلدين، لأنهم حين هربوا من دنكريك تركوا وراءهم كمية هائلة من الإمدادات والأسلحة. وهذه لم تكن أي أسلحة، بل كانت معدات وآليات عسكرية حديثة جداً كانت قد دخلت الخدمة لتوها.
عن هذه الحادثة، كتب رئيس الوزراء البريطاني "وينستون تشرشل" إلى الرئيس الأمريكي "روزفلت" قائلاً: "لقد خسرنا هناك طليعة إنتاج مصانعنا الحربية: 7 آلاف طن من الذخيرة و90 ألف بندقية و120 ألف سيارة و8 آلاف رشاش و400 من قاذفات الصواريخ المضادة للدبابات".
لكن الجيوش الألمانية التي تجتاح أوروبا لم تكن هي الهم الوحيد للبريطانيين الذين كانوا في أمس الحاجة إلى أسلحة جديدة غير تلك التي فقدوها من أجل الدفاع عن الجزر البريطانية ضد أي هجوم مباشر من ألمانيا وعن قناة السويس ضد الإيطاليين، وكذلك لحماية سنغافورة المستعمرة وجنوب غرب المحيط الهادي من اليابانيين.
كان السبيل الوحيد لتلبية هذه الاحتياجات هو من خلال شراء المزيد من الإمدادات من الولايات المتحدة.
منذ بداية الحرب العالمية الثانية وحتى مايو/أيار 1940 -تاريخ وقوع معركة دنكريك- كان البريطانيون يشترون إمدادات الحرب من الولايات المتحدة باستخدام احتياطياتهم الدولارية، ولكن وفق سياسة "ادفع نقداً واحمل" (Cash and Carry). فقد كان على البريطانيين أن يدفعوا القيمة الكاملة للبضائع قبل أن تغادر الموانئ الأمريكية.
لكن بعد كارثة دنكريك، لم يعد البريطانيون قادرين على تمويل الحرب بمفردهم، فقد كانوا في حاجة إلى مساعدة خارجية. لذلك في الخامس من يوليو/تموز 1940 كتبت الحكومة البريطانية إلى الأمريكيين طالبة مدمرات وزوارق وطائرات ومدافع وبنادق وذخيرة.
لكن في نفس الرسالة، أوضح البريطانيون للأمريكيين أن قدرتهم على الاستمرار في السداد النقدي لثمن مشترياتهم وصلت تقريباً إلى نهايتها، وأنه سيكون من المستحيل عليهم الاستمرار في السداد بهذه الطريقة نظراً لطول أمد الحرب والحجم الهائل للإمدادات التي يحتاجون إليها، وطلبوا من الأمريكيين شروط سداد طويلة الأجل.
ألا يوجد لديكم شيء لتبيعوه؟
كان الحل الذي اقترحه الأمريكيون هو "قانون الإعارة والاستئجار" والذي سمح لرئيس الولايات المتحدة بإعارة وتأجير الأسلحة التي لا يحتاج إليها الجيش لمدة لا تزيد على 5 سنوات إلى أي حكومة يرى أن الدفاع عنها حيوي بالنسبة للمصالح الأمريكية.
لكن لسوء حظ البريطانيين كان الرأي العام الأمريكي في ذلك الوقت معارضاً بشدة لتورط بلادهم في الحرب بأي شكل من الأشكال. وفي نفس الوقت تحتاج إدارة الرئيس "فرانكلين رزفلت" إلى الحصول على موافقة الكونجرس لتمرير هذا القانون، والبدء في مساعدة البريطانيين عبره.
رأى الأمريكان أن الطريقة الوحيدة للتأثير على الرأي العام وإقناع أعضاء الكونجرس بهذا القانون هو أن تثبت بريطانيا للجميع أنه لم يعد لديها أي احتياطيات دولارية أو أي أصول أخرى يمكنها تصفيتها لدفع ثمن مشترياتها. ولكن بعيداً عن الشارع الأمريكي، كان المسؤولون في واشنطن غير واثقين في حديث البريطانيين عن إفلاسهم الدولاري.
البريطانيون الذين لم يكن أمامهم الكثير من الخيارات وافقوا، ليبدأ وزير المالية الأمريكي "هنري مورجنثاو" حملة للتحقق من وإثبات أن البريطانيين لم يعودوا يمتلكون أي دولارات أو أي أصول أخرى يمكن تسييلها.
مارس "مورجنثاو" ضغوطاً على لندن لدفعها إلى بيع استثماراتها الحكومية الموجودة في أمريكا، وشحن الذهب الذي تحتفظ به في جنوب إفريقيا إلى الولايات المتحدة، وكذلك تسليم الذهب الفرنسي الموجود في كندا إلى واشنطن. كما طالبهم أيضاً بإرسال شخص إلى الولايات المتحدة يمتلك السلطة القانونية التي تخول له تصفية أصولهم في أمريكا.
طلبات الأمريكيين لم تقف عند هذا الحد، حيث إن "مورجنثاو" طلب أيضاً من البريطانيين دفع مبلغ إضافي قدره مليارا دولار نقداً إلى الولايات المتحدة قبل أن تبدأ في توريد الأسلحة إليهم وفق قانون "الإعارة والاستئجار". كما طلبت واشنطن من لندن إطلاعها أولاً بأول على البيانات الخاصة بالاحتياطيات المالية البريطانية والالتزامات الواقعة على عاتقها.
استاء البريطانيون من طلبات "مورجنثاو". ومرة أخرى بعث "تشرشل" برسالة إلى الرئيس الأمريكي "روزفلت" لا يذكره فيها فقط بالموقف المالي السيئ لبريطانيا، بل يخبره فيها أيضاً بأن إجباره لبريطانيا على بيع أصولها يعد خطأ أخلاقياً، وأن البريطانيين في الوقت الذي يحاولون فيه إنقاذ الحضارة قد وفروا للأمريكيين الوقت الكافي للتسليح وإعداد جيشهم ضد كل الاحتمالات.
محاولة فاشلة لاستعطاف "روزفلت"
كان البريطانيون لا يريدون التخلي عن الذهب الموجود في جنوب إفريقيا من أجل الحفاظ على ثقة العالم بالجنيه الإسترليني، وأيضاً كي يستطيعوا تغطية تكلفة الإمدادات الأخرى التي يحصلون عليها من دول أخرى غير الولايات المتحدة.
لكن الأمر لم يكن بأيدي البريطانيين. فقد كانوا في حاجة ماسة إلى الإمدادات مع تطور النزاع مع الألمان واتساع رقعته، ولكن الأمريكيين أيضاً لم يتنازلوا عن مطالبهم، وبدؤوا في رفض وإعاقة طلبيات الشراء المرسلة من البريطانيين.
بدأ البريطانيون في تصفية أصولهم، وذلك من أجل مواصلة شراء السلع نقداً من الولايات المتحدة من ناحية، وبغرض المساعدة في إقناع الكونجرس بتمرير قانون "الإعارة والاستئجار" من ناحية أخرى.
في ديسمبر/كانون الأول من عام 1940، اقترح السير "فريدريك فيلبس" -المبعوث البريطاني إلى الولايات المتحدة من أجل التفاوض على مشتريات الأسلحة- على واشنطن شراء الذهب البريطاني الموجود في جنوب إفريقيا. ولم يتردد "روزفلت" في قبول العرض، وهو ما أغضب "تشرشل".
في ذات الشهر، وتحديداً في 31 ديسمبر/كانون الأول 1940، كتب "تشرشل" إلى "روزفلت" رسالة يخبره فيها بأن إرسال واشنطن لسفينة حربية إلى كيب تاون من أجل الحصول على الذهب البريطاني الموجود هناك، هو خطوة محرجة لبلاده، ومن شبه المؤكد أن ذلك الخبر سيتسرب إلى الرأي العام البريطاني.
أكد "تشرشل" أيضاً أن انتشار هذا الخبر سيشجع وسيرفع من معنويات العدو الذي سيشيع أن الرئيس الأمريكي يرسل في طلب آخر ما تبقى لدى بريطانيا من احتياطيات. وختم رئيس الوزراء البريطاني رسالته مخاطباً "روزفلت" بالعبارة التالية" :"إذا كنت تشعر أن هذا هو السبيل الوحيد، فسأقوم بإعطاء التوجيهات بأن يتم تحميل ذهبنا الموجود في كيب تاون على متن سفينتكم التي ستصل إلى هناك".
لم يعبأ "روزفلت" بمحاولات "تشرشل" لاستعطافه، وأمر الجيش على الفور بتوجيه سفينة "يو إس إس لويز فيل" إلى بلدة سيمونز تاون -الواقعة بالقرب من العاصمة الجنوب إفريقية كيب تاون- حيث تحتفظ بريطانيا هناك بذهبها.
الذهب البريطاني في حضن الأمريكيين
وصلت السفينة الحربية الأمريكية إلى هناك في العاشر من يناير/كانون الثاني 1941، وحملت على متنها ذهباً بقيمة 42 مليون جنيه إسترليني قبل أن تصل بأمان إلى مدينة نيويورك في السادس والعشرين من يناير/كانون الثاني.
بالإضافة إلى الذهب الموجود في جنوب إفريقيا، كان البريطانيون يضعون أيديهم على ما قيمته 87 مليون جنيه إسترليني من الذهب البلجيكي، و23.5 مليون جنيه إسترليني من الذهب الهولندي، فضلاً على ما قيمته 285 مليون جنيه إسترليني من الذهب الفرنسي المحتفظ به في كندا. أراد الأمريكيون كل ذلك، وحصلوا عليه بالفعل، باستثناء الذهب الفرنسي الذي رفضت الحكومة الكندية تسليمه لبريطانيا.
في فبراير/شباط 1941، جدد "روزفلت" الضغط على البريطانيين من أجل دفعهم لإثبات أنهم لم يعد لديهم أي أصول يمكن تسييلها. وتحت وطأة هذه الضغوط قام البريطانيون بسرعة ببيع شركة "أمريكان فيسكوز كوبوريشن"، وذلك على الرغم من أن الحكومة البريطانية كانت ضد هذه الخطوة.
اشترت مجموعة مصرفية أمريكية الشركة البريطانية، وحصلت وزارة الخزانة الأمريكية على 90% من حصيلة عملية البيع.
لكن الطريف هو أن البريطانيين قاموا بحملات إعلانية في أمريكا لنشر خبر بيعهم للشركة، وذلك في إطار جهودهم الحثيثة للتأثير على الرأي العام الأمريكي وإقناع أعضاء الكونجرس بتمرير قانون "الإعارة والاستئجار" الذي كان لا يزال قيد المناقشة داخل أروقة الكونجرس.
في 11 مارس/آذار 1941، وافق الكونجرس على مشروع قانون "الإعارة والاستئجار" بأغلبية 317 صوتاً مقابل 71 صوتاً. وبداية من منتصف ذلك الشهر بدأت الولايات المتحدة في إعارة معداتها العسكرية إلى البريطانيين، ولكن لندن ظلت ملزمة بالسداد النقدي لقيمة كل الطلبيات التي تعود إلى ما قبل تاريخ إقرار القانون.
هل يلام الأمريكيون؟
لجوء بريطانيا إلى الولايات المتحدة للحصول على التمويل خلال الحرب العالمية الثانية كلفها الكثير، سواء على الصعيد المالي والاقتصادي أو في شكل فقدان الاستقلال الوطني. فقد تم تجريد البريطانيين حرفياً من أصولهم الدولارية والذهبية التي كانوا في أمس الحاجة إليها من أجل إعادة بناء بلادهم بعد الحرب.
علاوة على ذلك خرج البريطانيون من الحرب مع ديون هائلة احتاجوا إلى أكثر من 50 عاماً لسدادها. فقد قاموا بسداد آخر دفعة من هذه الديون في 29 ديسمبر/كانون الأول من عام 2006.
في الفترة ما بين سبتمبر/أيلول 1939 ويونيو/حزيران 1945، قامت بريطانيا ببيع وتصفية ما قيمته 1.18 مليار جنيه إسترليني من الأصول الرأسمالية، بينما شهدت ديونها الخارجية زيادة قدرها 2.879 مليار جنيه إسترليني، في حين انحفضت احتياطياتها من الذهب والدولار بما قيمته 152 مليون جنيه إسترليني.
لكن ما آلم البريطانيين أكثر من أي شيء آخر هو إدراكهم أن التمويل الخارجي للحرب كلف بريطانيا استقلالها. فقد أجبرت الولايات المتحدة الحكومة البريطانية طوال الحرب على إطلاعها على أدق التفاصيل الخاصة بوضعها الاقتصادي، كما أرغمتها على بيع أصولها بأسعار بخسة.
لكن في النهاية، نجد أنه من باب الإنصاف أن نشير إلى نقطتين: الأولى هي أن البريطانيين هم من طرقوا أبواب الولايات المتحدة طالبين المساعدة وليس العكس. والأمريكيون لهم كل الحق في كيفية التصرف في أموالهم. أما الثانية فهي أن الولايات المتحدة لم تكن هي من دفع بريطانيا وجيرانها ناحية الحرب التي دمرت أوروبا عن بكرة أبيها.
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}